في تطور سياسي غير مسبوق، أثارت تصريحات الرئيس السوري أحمد الشرع حول تقدم المفاوضات الأمنية مع الكيان الإسرائيلي موجة من القلق داخل الدوائر السياسية في
طهران، التي ترى في هذه الخطوة تحولاً جذرياً في الموقف السوري التقليدي تجاه إسرائيل، وتخشى من تداعياتها على التوازنات الإقليمية، خاصة في ظل تصاعد التهديدات المتبادلة بين الكيان وطهران.
الشرع، الذي يتولى قيادة سوريا بعد سقوط النظام السابق، أعلن في تصريحات إعلامية أن حكومته تجري مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل، تركز على ملفات أمنية بحتة، تشمل الحدود الجنوبية، التوغلات العسكرية، وترتيبات ما بعد
النزاع. هذه التصريحات جاءت في وقت حساس، حيث تشهد المنطقة توتراً متصاعداً بين إيران وإسرائيل، وسط تهديدات متبادلة بشن ضربات عسكرية، وتحركات ميدانية على أكثر من جبهة.
الدوائر السياسية في طهران عبّرت عن قلقها من أن تؤدي هذه المفاوضات إلى تقويض النفوذ الإيراني في سوريا، خاصة في المناطق الجنوبية التي كانت تشكل نقطة ارتكاز استراتيجية لطهران منذ بداية الأزمة السورية. وتخشى إيران
من أن تُفضي هذه المحادثات إلى اتفاقات أمنية تسمح لإسرائيل بفرض ترتيبات ميدانية تُقصي أي وجود عسكري أو استخباراتي إيراني، وهو ما تعتبره طهران تهديداً مباشراً لمصالحها الحيوية في المنطقة.
التطورات الأخيرة تأتي في سياق متغيرات إقليمية متسارعة، أبرزها إعادة تموضع القوى الفاعلة في سوريا، ومحاولات الإدارة السورية الجديدة بقيادة الشرع لتبني سياسة "النأي بالنفس" عن الصراعات الإقليمية، بما في ذلك المواجهة الإيرانية الإسرائيلية. الشرع، الذي كان يُعرف
سابقاً بارتباطه بفصائل مسلحة، بات اليوم يروج لخطاب سياسي يدعو إلى "السلام الإقليمي" و"الاستقرار الداخلي"، ويؤكد أن سوريا لم تعد قادرة على تحمل تبعات الحروب بالوكالة أو الدخول في صراعات لا تخدم مصالحها الوطنية.
هذا التحول في الخطاب السوري، وإن كان مرحباً به من بعض الأطراف الدولية، إلا أنه يثير مخاوف حقيقية لدى طهران، التي ترى في سوريا حليفاً استراتيجياً، وساحة نفوذ لا يمكن التفريط بها. وقد عبّر مسؤولون إيرانيون عن استغرابهم من تصريحات الشرع، معتبرين أنها "تفتقر إلى الواقعية"، وأنها "تُغفل التهديدات الوجودية التي يشكلها الكيان الصهيوني على المنطقة بأسرها".
في المقابل، يرى مراقبون أن الشرع يحاول إعادة تموضع سوريا في الخارطة السياسية الإقليمية، بعيداً عن المحاور التقليدية، وبما يضمن له هامشاً أكبر من المناورة السياسية والاقتصادية. فالمفاوضات مع إسرائيل، وإن كانت تقتصر على ملفات أمنية، إلا أنها تحمل في طياتها مؤشرات على رغبة دمشق في فتح قنوات تواصل جديدة، قد تُفضي لاحقاً إلى تفاهمات أوسع تشمل إعادة الإعمار، رفع العقوبات، وربما حتى تطبيعاً تدريجياً.
التقارير الإعلامية تشير إلى أن المفاوضات تشمل شروطاً متبادلة، أبرزها انسحاب تدريجي للقوات الإسرائيلية من مناطق جنوب سوريا، مقابل ضمانات أمنية بعدم وجود قوات موالية لإيران أو حزب الله في تلك المناطق. كما يُطرح على الطاولة مشروع لتحويل مرتفعات الجولان إلى "حديقة للسلام"، تخضع لترتيبات أمنية مشتركة، دون حسم مسألة السيادة عليها، وهو ما يُعد تنازلاً كبيراً من الجانب السوري، ويثير تساؤلات حول مدى استقلالية القرار السياسي في دمشق.
في هذا السياق، تتخوف طهران من أن تؤدي هذه التفاهمات إلى تكرار سيناريوهات المواجهة المباغتة مع الكيان، خاصة إذا ما شعرت إسرائيل بأن سوريا لم تعد تشكل تهديداً مباشراً، وأن بإمكانها التحرك بحرية في الجنوب السوري دون رد فعل قوي. هذا القلق يتضاعف في ظل غياب التنسيق العسكري بين دمشق وطهران، وتراجع النفوذ الإيراني في مؤسسات الدولة السورية بعد التغيير السياسي الأخير.
سياسة "النأي بالنفس" التي تتبناها دمشق حالياً، وإن كانت تهدف إلى تجنيب البلاد مزيداً من الدمار، إلا أنها تُضعف من موقفها الإقليمي، وتُفقدها أوراق ضغط كانت تعتمد عليها في السابق. كما أنها تضعف من قدرة إيران على استخدام الورقة السورية في صراعها مع إسرائيل، ما قد يدفع طهران إلى إعادة النظر في استراتيجيتها الإقليمية، وربما البحث عن بدائل في العراق أو لبنان لتعويض خسارتها المحتملة في سوريا.
في المحصلة، فإن تصريحات أحمد الشرع حول تقدم المفاوضات مع الكيان الإسرائيلي تمثل نقطة تحول في السياسة السورية، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التفاعلات الإقليمية، عنوانها إعادة التموضع، وتبدل التحالفات، وتراجع منطق المواجهة لصالح منطق التفاهمات. وبينما تحاول دمشق رسم مسار جديد بعيداً عن المحاور التقليدية، تبقى طهران في حالة ترقب، تخشى من أن تكون هذه التحولات بداية لتفكك منظومة النفوذ التي بنتها على مدى عقد من الزمن.
تعليقات
إرسال تعليق