في تطور غير مسبوق، شهد المشهد السوري تحولات دراماتيكية إثر تصريحات مفاجئة صدرت من العاصمة التركية أنقرة، حملت في طياتها رسائل سياسية وأمنية واقتصادية أعادت تشكيل موازين القوى في المنطقة. هذه التصريحات،
التي جاءت على لسان وزير الخارجية التركي هاكان فيدان خلال زيارته الأخيرة إلى دمشق، لم تكن مجرد كلمات دبلوماسية عابرة، بل حملت إشارات واضحة إلى نوايا تركية جديدة تجاه الملف السوري، ما وضع الشرع السوري أمام مفاجأة كبرى قد تعيد رسم خارطة التحالفات والتوازنات الإقليمية.
*تركيا تعيد التموضع في سوريا*
منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، لعبت تركيا دوراً محورياً في دعم المعارضة السورية، واحتضنت ملايين اللاجئين، كما نفذت عمليات عسكرية في الشمال السوري لمحاربة التنظيمات الكردية التي تعتبرها تهديداً لأمنها القومي. إلا أن التصريحات الأخيرة تشير إلى تحول في الاستراتيجية التركية، حيث أكد فيدان أن بلاده لن تقف مكتوفة اليد أمام الأطراف الانفصالية، محذراً من السياسات الإسرائيلية التي تهدد وحدة سوريا واستقرارها.
هذا التحول يعكس رغبة تركية في إعادة التموضع داخل سوريا، ليس فقط كقوة عسكرية، بل كفاعل سياسي واقتصادي يسعى إلى لعب دور رئيسي في إعادة الإعمار وضبط الأمن الداخلي. ويبدو أن أنقرة باتت ترى في سوريا فرصة استراتيجية لتعزيز نفوذها الإقليمي، خاصة في ظل تراجع الدور الإيراني والروسي في بعض المناطق.
*الشرع السوري بين المفاجأة والفرصة*
بالنسبة للقيادة السورية، تمثل هذه التصريحات مفاجأة كبرى، خصوصاً أنها تأتي بعد سنوات من القطيعة والتوتر بين دمشق وأنقرة. لكن المفاجأة لا تعني بالضرورة الصدمة، بل قد تكون فرصة لإعادة بناء العلاقات على أسس جديدة، خاصة إذا ما تم التوافق على ملفات حساسة مثل عودة اللاجئين، محاربة الإرهاب، وإعادة الإعمار.
الشرع السوري، الذي لطالما نظر إلى تركيا كخصم إقليمي، يجد نفسه اليوم أمام خيار استراتيجي: إما الانخراط في تفاهمات جديدة مع أنقرة تضمن مصالح الطرفين، أو الاستمرار في سياسة العزلة والمواجهة التي أثبتت محدوديتها في السنوات الأخيرة.
*إسرائيل في قلب المعادلة*
التصريحات التركية لم تمر مرور الكرام في تل أبيب، التي سارعت إلى التعبير عن قلقها من أي تقارب تركي-سوري قد يؤدي إلى تعزيز القدرات العسكرية السورية أو إعادة بناء جيش قادر على تهديد حدودها. إسرائيل، التي لطالما استفادت من ضعف الدولة السورية لتوسيع نفوذها في الجنوب، ترى في الدور التركي الجديد تهديداً لمصالحها، خاصة إذا ما تبلور محور إقليمي يضم تركيا، سوريا، ولبنان، وربما دولاً خليجية مثل السعودية والإمارات.
هذا القلق الإسرائيلي يعكس حجم التحول في موازين القوى، حيث لم تعد سوريا ساحة للصراع بين إيران وإسرائيل فقط، بل باتت ميداناً لتنافس تركي-إسرائيلي قد يتطور إلى مواجهة غير مباشرة على الأرض السورية.
*البعد الاقتصادي والاستثماري*
بعيداً عن السياسة، تحمل التصريحات التركية بعداً اقتصادياً مهماً، إذ تشير إلى نية أنقرة الاستثمار في مشاريع البنية التحتية داخل سوريا، مثل إعادة تشغيل خط الحديد الحجازي، وإنشاء طرق سريعة تربط بين البلدين، فضلاً عن بناء مطارات وموانئ تركية. هذه المشاريع لا تهدف فقط إلى تعزيز التجارة، بل إلى ترسيخ الحضور التركي في سوريا كقوة اقتصادية قادرة على التأثير في مستقبل البلاد.
كما أن الاتفاقيات المحتملة بين تركيا ودول الخليج، مثل صفقة الطائرات الشبح مع السعودية، تعزز من مكانة أنقرة كقوة إقليمية صاعدة، وتفتح الباب أمام تحالفات جديدة قد تغير شكل المنطقة بالكامل.
*التحديات أمام التفاهم التركي-السوري*
رغم الإشارات الإيجابية، لا تزال هناك تحديات كبيرة أمام أي تفاهم تركي-سوري. فالثقة بين الطرفين شبه معدومة، والملفات العالقة كثيرة، من قضية الأكراد إلى مستقبل إدلب، مروراً بملف اللاجئين. كما أن التدخلات الخارجية، خاصة من قبل الولايات المتحدة وروسيا، قد تعرقل أي تقارب حقيقي.
لكن في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية، يبدو أن الطرفين يدركان أن استمرار القطيعة لم يعد مجدياً، وأن التفاهم قد يكون الخيار الوحيد لتجنب مزيد من الفوضى والانهيار.
*ختاماً: لحظة مفصلية في تاريخ الأزمة السورية*
ما تشهده سوريا اليوم ليس مجرد تصريحات سياسية، بل لحظة مفصلية قد تحدد مستقبل البلاد لعقود قادمة. فالمفاجأة التركية الكبرى، التي قلبت موازين المشهد السوري، تفتح الباب أمام سيناريوهات جديدة، بعضها يحمل الأمل في الاستقرار، والبعض الآخر ينذر بمزيد من التعقيد.
الشرع السوري أمام اختبار حقيقي: هل يستطيع استثمار هذه اللحظة لبناء شراكة جديدة مع تركيا؟ أم أن الحسابات القديمة ستطغى على المصالح الوطنية؟ الإجابة ستتضح في الأشهر القادمة، لكن المؤكد أن سوريا لم تعد كما كانت، وأن الشرق الأوسط بأكمله على أعتاب مرحلة جديدة.
تعليقات
إرسال تعليق