*بعد انطلاق التبرعات.. هل تترك سوريا أموالها المهربة؟*
في مشهد وطني غير مسبوق، شهدت سوريا انطلاقة قوية لصندوق التنمية السوري، حيث تجاوزت التبرعات 61 مليون دولار خلال ساعة واحدة فقط من إطلاقه في قلعة
دمشق، وسط حضور شعبي ورسمي واسع امتد إلى ساحات المدن السورية من حلب إل٦ى درعا⁽¹⁾. هذه المبادرة، التي أطلقها رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، تهدف إلى تمويل مشاريع إعادة الإعمار من "كريم أموال السوريين"، كما وصفها، بعيدًا عن استجداء المساعدات الخارجية.
لكن وسط هذا الحماس الشعبي، يبرز سؤال جوهري: هل تترك سوريا أموالها المهربة؟ وهل تكفي التبرعات المحلية لتعويض ما نُهب خلال عقود من الفساد والاستبداد؟
*التبرعات: بداية واعدة ولكن محدودة*
لا شك أن حجم التبرعات يعكس رغبة السوريين في المساهمة بإعادة بناء وطنهم، ويؤكد وجود طاقة وطنية قادرة على التحرك في الاتجاه الصحيح. إلا أن هذه التبرعات، مهما بلغت، تبقى محدودة مقارنة بحجم الأموال التي هُربت خارج البلاد خلال سنوات حكم النظام السابق.
فبحسب تقارير دولية، نقل النظام السوري نحو 250 مليون دولار نقدًا إلى روسيا خلال عامين فقط، كما امتلكت عائلة الأسد ما لا يقل عن 18 شقة فاخرة في موسكو، فضلًا عن أصول مالية وعقارية في سويسرا ودول الخليج⁽²⁾. وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن عشرات المليارات من الدولارات خرجت من سوريا عبر قنوات مصرفية شرعية وغير شرعية⁽³⁾.
*الأموال المهربة: ملف شائك ومعقد*
استرداد الأموال المهربة ليس مهمة سهلة، بل هو ملف بالغ التعقيد، يتداخل فيه القانون الدولي مع المصالح السياسية والاقتصادية للدول التي تستضيف هذه الأموال. فالمصارف الكبرى، خصوصًا في سويسرا، تبني سمعتها على مبدأ السرية المصرفية، ما يجعل من استعادة الأموال المنهوبة شبه مستحيلة، كما يؤكد الخبير الاقتصادي جورج خزام⁽³⁾.
حتى في الحالات التي نجحت فيها دول مثل نيجيريا وتونس في استرداد جزء من أموالها، فإن العملية استغرقت سنوات طويلة، ولم تُسترجع سوى نسبة ضئيلة من الإجمالي. في تونس مثلًا، لم يُستعد سوى 350 مليون دولار من أصل مليارات الدولارات المهربة بعد سقوط نظام بن علي.
*العملات المشفرة: ملاذ جديد للأموال المنهوبة*
إلى جانب المصارف التقليدية، باتت العملات المشفرة تشكل تحديًا إضافيًا في ملف استرداد الأموال. فبفضل طبيعتها اللامركزية وعدم خضوعها للرقابة، أصبحت هذه العملات وسيلة مثالية لغسل الأموال وإخفاء الأصول، ما يزيد من صعوبة تتبع الأموال السورية المهربة، خاصة إذا تم تحويلها إلى أصول رقمية يصعب تجميدها أو استردادها⁽³⁾.
*هل من إرادة دولية حقيقية؟*
رغم وجود مبادرات دولية مثل برنامج "StAR" المشترك بين البنك الدولي والأمم المتحدة، فإن الإرادة الدولية لاسترداد الأموال المنهوبة تبقى محدودة. فالدول التي تستضيف هذه الأموال غالبًا ما تتردد في التعاون، إما بسبب مصالحها الاقتصادية، أو خشية من المساس بسمعة مصارفها.
وفي حالة سوريا، فإن تعقيدات المشهد السياسي، وغياب مؤسسات قضائية مستقلة، قد تعرقل أي جهود قانونية لاسترداد الأموال، ما لم يتم تشكيل لجان دولية خاصة، أو التوصل إلى اتفاقات ثنائية مع الدول المعنية.
*هل تكفي التبرعات وحدها؟*
الرهان على التبرعات وحدها لإعادة إعمار سوريا يبدو غير واقعي، رغم أهميته الرمزية. فتكلفة إعادة بناء البنية التحتية المدمرة، وتحسين الخدمات الأساسية، وتوفير فرص العمل، تتطلب مليارات الدولارات، لا يمكن توفيرها إلا عبر استرداد الأموال المنهوبة، أو جذب استثمارات خارجية ضخمة.
لذلك، فإن التبرعات يجب أن تكون جزءًا من استراتيجية شاملة تشمل:
- *تشكيل لجنة وطنية لاسترداد الأموال* تضم خبراء قانونيين واقتصاديين.
- *التعاون مع منظمات دولية* لتوثيق حجم الأموال المهربة وتحديد أماكنها.
- *الضغط الدبلوماسي على الدول المستضيفة* لتجميد الأصول المشبوهة.
- *إطلاق حملة إعلامية دولية* لكسب التأييد الشعبي والسياسي لقضية استرداد الأموال.
*خاتمة: بين الأمل والواقعية*
انطلاق التبرعات في سوريا يمثل لحظة أمل، ويعكس رغبة شعبية حقيقية في تجاوز الماضي وبناء مستقبل أفضل. لكنه لا يجب أن يُستخدم كبديل عن المطالبة باسترداد الأموال المنهوبة، التي تمثل حقًا للشعب السوري، وضرورة اقتصادية لا غنى عنها.
فإذا كانت سوريا اليوم تختبر محبة أبنائها، كما قال الشرع، فإنها أيضًا تختبر قدرتهم على المطالبة بحقوقهم، ومواجهة التحديات القانونية والسياسية لاستعادة ما سُرق منهم. وبين التبرع الطوعي والمحاسبة القانونية، يجب أن تسير سوريا في طريق مزدوج نحو العدالة والتنمية.
---
هل ترغب أن أساعدك في تنسيقه للنشر الصحفي أو تحويله إلى نسخة قابلة للمشاركة على منصات التواصل؟
تعليقات
إرسال تعليق